محاكمة هشام بن عبد الملك ليست الأولى.. 3 هياكل عظمية تم الحكم عليها بالإعدام
في الأيام القليلة الماضية، تم تداول فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر، لمحاكمة كاملة الأركان، للخليفة الأموي المتوفى عام 743 ميلاديًا، هشام بن عبد الملك، عاشر خلفاء بني أمية، وذلك بتهمة قتل «زيد بن علي بن الحسين»؛ تمت المحاكمة في مقر نقابة المحامين العراقيين، تحديدًا في محافظة النجف جنوب العراق، حضرها قضاة المحاكم العراقية الرسمية، ومحامون عن المتهمين، وعلى الرغم من أنّ المحاكمة ذاتها كانت قبل خمس سنوات أو أكثر، في شهر ديسمبر (كانون الثاني) من عام 2012، أي بعد 1313 عامًا من ارتكاب الجريمة، إلا أن الفيديو المتداول قد أثار جدلًا واسعًا بين مؤيد للفكرة ومعارض.
كان زيد بن علي بن الحسين قائدًا لثورة في العراق، خاصة في مدينة الكوفة، والتي تجمَّع بها أكثر شيعة العراق، والموالون لأهل البيت، فبايعه أكثر من 300 ألف منهم للخروج على الخليفة الأمويّ هشام بن عبد الملك، في غرة صفر 122هـ، وما كان من الخليفة الأموي إلا أن أمر برأسه، فكان مقتل زيد بن علي على يديه؛ إذ قُطع رأسه، وحُمل في الأسواق ليكون عبرةً للخارجين على الخليفة.
وفي المحاكمة، وبعد أن انتهت مرافعات الدفاع، تمَّ الحُكم على الخليفة الأموي المتوفى، بالإعدام شنقًا حتى الموت، في واقعة وصفها البعض بالغريبة، وأشيع أن تلك المحاكمة قد كلّفت خزانة الدولة العراقية 56 مليون دينار عراقي.
وعلى الرغم من أن الإمام الذهبي، في كتابه «سير أعلام النبلاء»، قد قال دفاعًا عن الخليفة الأموي، إنه لم يكن محبًّا للدماء، ولم يكن هناك شيء شديد على نفسه أكثر من مقتل زيد بن علي؛ إذ يقول: «دخله من مقتل زيد بن علي وابنه يحيى بأسٌ شديد، حتى قال: وددتُ لو كنت افتديتهما»، فلم يذكر الذهبي أيًّا من الويلات التي تعرّضت لها جثة زيد بن علي، من تمثيلٍ وصلب، إلا أنّ ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ»، وفي الجزء الخاص بذكر سنة 122هـ، يُنصف زيد بن علي؛ الذي تخلَّى عنه أهل العراق بعد مبايعته في الكوفة، وبعد قتالٍ شديد بين العراق والشام، أصيب بنصل سيف في جبهته اليسرى، وما أن قام أصحابه بإزالة النصل حتى مات.
ويحكي ابن الأثير عن يوم دفن زيد قائلًا إن أصحابه قد أخذتهم الحيرة بين دفنه أو إلقائه في الماء، إذ يُقال إن الحال قد انتهت به مدفونًا في نهر يعقوب، إلا أنّ رجال الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ومن بينهم يوسف بن عمر، قد قاموا بتتبع الجرحى، وأصحاب زيد، حتى دلهم أحدهم على مكان دفنه، فقام باستخراج جثته، وأمر بقطع رأسه، فيقول ابن الأثير: «أمر يوسف أن يُصلب جسد زيد بالكناسة، هو ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق، وأمر بحراستهم، وبعث الرأس إلى هشام فصُلب على باب مدينة دمشق، وبقي الجسد مصلوبًا حتى وفاة هشام بن عبد الملك، وتولية ابنه الوليد الذي أمر بإنزال الجسد وإحراقه».
وعلى الرغم من أن محاكمة الخليفة الأموي هشام بعد وفاته تُعدّ من الأحداث الغريبة على المجتمع العربي، إلا أن التاريخ حافل بقصصٍ جاءت من العصور الوسطى، تمّ نبش القبور فيها، وإخراج هياكل عظمية لأشخاصٍ متوفّين، من أجل محاكمتهم على جرائمهم.
محاكمة الهيكل العظمي للبابا فورموسوس.. البابا الجديد في خصومة مع البابا القديم
في عصور الظلام، وبينما كانت البابوية هي المسيطرة على الحكم في روما، كانت إحدى عجائب تلك الفترة هي انتشار فكرة «إعدام المتوفى»، وهو فكرٌ مسيحي يعتمد في الأساس على فكرة قيامة الموتى وطريقة الدفن، بأجسادٍ كاملة، ورؤوس موجهة نحو الشرق، لتواجه الله يوم العرض العظيم.
وكان أي إخلالٍ بطقوس الدفن، وأي تمزيقٍ للجسد، بالنسبة لهذا الفكر قد يمنع المتوفى من قيامته، ولهذا كانت فكرة الإعدام بعد الموت، وتمزيق الأجساد، هما نوعًا آخر من العقاب، أشد قسوةً من الموت ذاته؛ ولهذا تم استخدامها مع المجرمين العتاة، بإعدامهم بعد الموت شنقًا في الأسواق العامة، وقد تظل تلك الجثث المُعلقة هكذا فترات قد تصل إلى سنواتٍ، من أجل تأجيل الدفن قدر المستطاع، وكان من وسائل العقاب الأخرى الأشد فتكًا هي تشريح المتوفى، حتى لا يستطيع القيامة بجسدٍ سليم، وقد كانت تلك المحاكمات تتم لإظهار أنه حتى في حالة الوفاة، لا يمكن للمرء أن يفلت من العدالة.
ونسبةً لهذا الفكر الذي شاع حينذاك، تمت محاكمة الهيكل العظمي للبابا فورموسوس بعد وفاته. المكان كان روما، الزمان: يناير (كانون الثاني) من عام 897 ميلاديًا، الحدث: تم نبش قبر البابا فورموسوس، بعد وفاته بسبعة أشهرٍ فقط بسبب التسمُّم، وفي مشهدٍ مُهيب قاموا باستخراج جثته، لأنها على وشك المحاكمة؛ إذ قام البابا ستيفن السادس باتهام البابا فورموسوس بتهمة الجدل ضد البابوية.
في المحاكمة تم وضع الهيكل العظمي للبابا فورموسوس مثبتًا على كرسي، ومرتديًا للزي البابوي، في حين يوجه له البابا ستيفن السادس الاتهامات واللعنات والشتائم، ولتكون المحاكمة عادلة، تم السماح للجثة بالدفاع عن نفسها، وذلك من خلال شاب من شماسين الكنيسة، إلا أن المتهم ويا للعجب، لم يستطع أن يدافع عن نفسه بحجج وبراهين، كي تسقط الاتهامات الموجهة إليه.
تم الحكم على الجثة بالتجريد من الزيّ البابوي، وإبطال كل القرارات التي كان قد اتخذها فورموسوس في حياته، كما تم قطع ثلاثة أصابع من يديه، والتي كان يستخدمهم للتبرك، هذا إلى جانب دفنه بقطعة أرضٍ مجهولة للعامة، ويُقال إن قبره تم نبشه مرةً ثانية، وقذف جسده في النهر.
كانت الفترة السياسية التي حوكم فيها البابا فورموسوس مُتقلبة في إيطاليا، وعُرفت باسم عصر «البوبوقراطية»؛ إذ كان أكثر العصور الفاسدة في تاريخ البابوية، فانتشرت المنافسات السياسية على الساحة الدينية، وكان كرسي البابوية خاضعًا للمصالح الخاصة والأهواء، فنشأت الخصومات بين البابوات، وقتل قبل فورموسوس ثلاثة من البابوات بالسم، وتولى البابوية لمدة أربع سنوات قبل أن يتم تسميمه هو نفسه، لإخلاء كرسيّ الحُكم البابوي.
تبدأ قصة المحاكمة في عهد البابا يوحنا الثامن، حين كان فورموسوس هو أسقف بورتو – ضاحية رومانية – إذ كان مُبشرًا ناجحًا، استطاع نشر الكاثوليكية في جميع أنحاء المملكة البلغارية، إلا أن البابا يوحنا قد انقلب عليه، واتهمه بالتطلع إلى البابوية، بموجب قانون يمنع الأساقفة من حكم أكثر من مكان في نفس الوقت، أو بناء إقطاعاتهم الخاصة، تمكن فورموسوس من الفرار حتى وفاة البابا يوحنا، فتمكن حينها من العودة إلى البلاد ومنصبه، وفي عام 891 كانت البابوية من نصيبه حتى وفاته، وعندما تولى البابا ستيفن السادس البابوية، أراد كسب تعاطف الناس، وذلك بإعادة فتح قضية البابا فورموسوس.
ويُقال إن السبب الذي دفع البابا ستيفن السادس لمحاكمة تلك الجثة الضعيفة، يعود لتعزيز التحالفات السياسية مع بعض أعداء فورموسوس.
القديس توماس بيكيت.. صديق الملك الذي زاحمه على السلطة
غضب الملك هنري الثاني على رئيس الأساقفة توماس بيكيت، وأمر فرسانه بجلب بيكيت من الكاتدرائية، وفي 29 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1170، وصل الفرسان إلى كاتدرائية كانتربري، وكان بيكيت عند المذبح العالي، فاقترب منه أحدهم بسيفه، وعندما هاجمهم قاموا بذبحه، ويُقال إن جمجمته قد تصدعت وسكبت دماغه على أرض الكاتدرائية.
كان توماس بيكيت ابن تاجر في لندن، شابًا متغطرسًا وأنانيًا ومعتدًا بذاته، إلا أنه تمكَّن بعد ذلك من أن يصبح أحد أكثر الأساقفة المتدينين في القرن الثاني عشر، وقد كان توماس بيكيت أحد أقرب الأصدقاء للملك هنري الثاني ملك إنجلترا؛ إذ يقول المؤرخون إن الاثنين اجتمع فيهما قلب وعقل رجلٍ واحد، وكانا لا يفترقان سواء في رحلات الصيد، أو لعب الشطرنج، وأصبح بيكيت مستشارًا لهنري، وكان الاثنان يعملانِ بلا كللٍ ولا تعبٍ من أجل إقرار النظام والقانون، في وقتٍ كانت فيه ساحات القضاء العامة منفصلة عن ساحات القضاء الكنسي، والتي يديرها الأساقفة ويدينون بالولاء للبابا في روما، والذي هو ممثل «الإله الدنيوي» بالنسبة لهم.
وعندما توفي رئيس الأساقفة في مايو (أيار) من عام 1161 ميلاديًا، رأى هنرى في ذلك فرصته لجلب البابوية إلى حيِّز سلطاته، وذلك من خلال تعيين صديق عمره توماس بيكيت في منصب رئيس الأساقفة، وما أن ارتدى بيكيت رداء المنصب الجديد، حتى شهد سلوكه تغيُّرًا جذريًا، وتحوُّلًا دينيًا، فاختلف الصديقان حول امتياز الكنيسة بعد ذلك بفترة، إذ أراد هنري أن يخضع الكنيسة لقوانين الأرض، في حين رأى بيكيت أن الكنيسة فوق القانون.
وصلت خلافاتهما إلى ذروتها في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1164، عندما شكَّك أنصار هنري في ولاء بيكيت لملكه، متهمين إياه بالخائن، وذلك قبل أن يقوم توماس بعمل انسحاب استراتيجي إلى فرنسا، لكبح جماح غضبهم، وعاش في منفاه وحيدًا ست سنوات، كانت كافية لتهدأ الأمور في دولته الأم، ممهدة لعودته إلى منصبه القديم، إلا أنه لم يلبث وقد أغضب الملك هنري الثاني مرةً ثانية، بعدما قام بطرد مجموعة من الأساقفة، ملقيًا عليهم لعناته، فأمر الملك بقتله، إلا أنه وبعد مقتله ندم أشد الندم وأعلن بيكيت شهيدًا.
وبعد وفاته بحوالي 300 عام، وفي عهد الملك هنري الثامن، نُبِشَ قبره، وقُدِّمتْ عظامه للمحاكمة بتهمة الخيانة، وذلك بعدما أراد الملك الخروج عن تقاليد الكنيسة الكاثوليكية وإنشاء الكنيسة الإنجيلية، ليتمكَّن من طلاق زوجته، ومن أجل ذلك تم اعتبار بيكيت خائنًا، وحُكم عليه بحرق عظامه، ودفن ما تبقى منها.
إعدام المتوفى.. أوليفر كرومويل
في صيف عام 1642 ميلاديًا، اندلعت الحرب الأهلية الإنجليزية الأولى، بين أنصار الملك تشارلز الأول «ملك إنجلترا»، والذي ادعى أن السلطة المُطلقة في الحكم هي حق إلهي للملك، وبين البرلمانيين والذين يفضِّلون إلغاء الملكية ومجلس اللوردات نهائيًا، وقد كان أوليفر كرومويل من هؤلاء البرلمانيين.
كان كرومويل عضوًا ملتزمًا في الجيش البرلماني، وقد تمت ترقيته بسرعة ليحتل المرتبة الثانية في منصب قائد الفريق في جيش الرابطة الشرقية، تلتها ترقية أخرى، فأصبح قائدًا للجيش البرلماني الرئيسي الجديد، وذلك عام 1645، وعندما اندلعت الحرب الأهلية مرةً ثانية في عام 1648، أدت نجاحات كرومويل العسكرية إلى ازدياد نفوذه السياسي بشكلٍ كبير، وفي ديسمبر من العام نفسه، حدث انشقاق في صفوف النواب البرلمانيين، بين داعمين للملك وبين آخرين كانوا يرون أن السبيل الوحيد لإنهاء الحرب الأهلية هو تقديم الملك تشارلز الأول للمحاكمة وإعدامه، ومن بينهم كان أوليفر كرومويل، والذي كان الاسم الثالث من بين 59 نائبًا قد قاموا بالتوقيع على مذكرة إعدام تشارلز.
بعد إعدام الملك، تمكَّن البرلمانيون من إنهاء الحرب الأهلية، وإلغاء الملكية ليحل محلها قيادة مجلس الدولة، وقد كان كرومويل حينذاك اللورد جنرال قائد القوات المسلحة البريطانية، ومن ثم تمَّت ترقيته إلى لورد بروتيكتور أو «حامي الرب»، وهو المنصب الذي استمر فيه حتى مات بعد ذلك بخمس سنوات عام 1658، بعدوى تسمُّم الدم، وقد تم تشييع جنازته بمراسم جنائزية مهيبة.
وفي 30 يناير من عام 1661، تم استخراج جثته من مثواه في دير كنيسة هنري السابع، لتتم محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، مع العديد من أعوانه في الجيش البرلماني؛ إذ عانت البلاد من تقلباتٍ سياسية استعادت على أثرها الملكية، تحت حكم تشارلز الثاني، وقد تم اختيار موعد المحاكمة ليتزامن مع تنفيذ حكم الإعدام في الملك تشارلز الأول.
وقد عُلقت الجثث في مشانق من سلاسل حتَّى غروب الشمس، إذ قُطِعتْ رؤوسهم، وألقيت الجثث في قبرٍ مشترك، أما الرؤوس فقد وُضِعتْ في قاعة وستمنستر، وذلك حتى عام 1685.
ساسة بوست