في ظل التقدم السريع للجيش..دمشق ليست محتاجة لـالكيميائي وليست مغرمة بإثارة حملة عالمية ضدها مجاناً
عبد المنعم علي عيسى
إذا صح ما قالته صحيفة «يني شفق» المقربة من النظام التركي في الرابع من الشهر الجاري بان الولايات المتحدة قد استقدمت مقاتلين من جزيرة غوام الأميركية كان قد جرى تدريبهم منذ العام 1996 للقيام بأي مهمة توكل إليهم إلى عفرين لمواجهة الجيش التركي، إذا صح ذلك فان المواجهة التركية الأميركية تبدو خيارا لا بد منه، ولطالما أكد أردوغان جاهزيته لتلك المواجهة عندما أعلن يوم السبت المنصرم بان عملية «غصن الزيتون» ستشمل بعد عفرين القامشلي ورأس العين وعين العرب وتل أبيض وصولاً إلى منبج التي ترابط فيها قوة أميركية قوامها 500 ما بين جنود ومستشارين وخبراء.
اللافت هو أن واشنطن لم تعلق على تصريح أردوغان سابق الذكر وإنما فضلت الاستمرار في إشغال دمشق عبر الضجة المثارة اليوم حول استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة، فـ«غرق» دمشق في الغوطة كفيل ببقاء المعركة في الجغرافيا الأخيرة أولوية لا تسبقها أولوية أخرى، وفي حال انجازها ستصبح الأولوية لمعركة إدلب، ومن ثم تصبح للشرق السوري والتواجد الأميركي فيه، ومن المتوقع أن تتصاعد تلك الضجة مع اقتراب الجيش السوري من اقتحام عمق الغوطة لاقتلاع المسلحين منها.
في ظل التقدم السريع الذي يحققه الجيش في معاركه يبرز سؤال مهم هو: لماذا تقدم دمشق على استخدام السلاح الكيميائي وما حاجتها إلى ذلك؟ وهل هي مغرمة بإثارة حملة عالمية ضدها مجاناً؟ أما فيما يخص امتلاك دمشق لذلك السلاح حتى بعد إعلانها عن تدمير كامل مخزونها منه العام 2013 فقد كانت واشنطن قد احتاطت له عبر العديد من التقارير التي تشير إلى أن بيونغ يانغ قامت في الآونة الأخيرة بمد دمشق بالعديد من الشحنات التي تحتوي على سلاح كيميائي، وما يثير القلق هو أن واشنطن تعمد إلى تهيئة الأرضيات التي تمكنها من توجيه ضربة ضد الجيش السوري، ومن الواضح أنها تعمل على تحشيد الموقفين الفرنسي والألماني في هذا الاتجاه، في حين أن الموقف البريطاني هو مضمون وتحصيل حاصل، بل وعمدت إلى نقل «الكاميرا» الأكثر تأثيراً في هكذا حالات إلى المكان الأكثر إثارة في العادة، والمقصود بذلك هو ذلك الاجتماع العاصف لمفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة التي ذهب مفوضها زيد بن رعد بن الحسين في الثالث من الشهر الجاري إلى حدود اتهام دمشق بأنها تخطط لما يشبه بـ«نهاية العالم» بعد الغوطة الشرقية! ولذا فان التصريحات التي أطلقها كل من وزيري الخارجية الأميركي والفرنسي وتقول إن لا دليل حتى الآن يثبت استخدام الجيش السوري للسلاح الكيميائي لا يعول عليها كثيراً في ظل السلوكيات التي تمارسها واشنطن فيما يخص هذا الآمر، بل إن تلك الطمأنات نفسها يمكن أن تكون مصدر قلق إضافياً فتاريخ العلاقة الأميركية بدمشق كثيرا ما كان يحوي لدغدات من هذا النوع، كان أشهرها هو قيام تل أبيب بقصف قواعد الصواريخ في البقاع اللبناني يوم 9 حزيران 1982 في اللحظة التي كان فيها المبعوث الأميركي فيليب حبيب مجتمعا إلى وزير الخارجية السوري حينها عبد الحليم خدام والبحث جار حول نزع فتيل الأزمة التي أطلق عليها آنذاك بأزمة الصواريخ السورية، بل وذهب حبيب في ذلك الاجتماع إلى حدود تقديم تعهد بأن المواجهة مع القوات الإسرائيلية سوف تنتهي إذا ما قامت دمشق بسحب صواريخها من البقاع، وربما من المفيد أن نذكر هنا في هذا السياق أن واشنطن كانت قد رتبت للعملية من بابها إلى محرابها، فقد كشف وزير الخارجية المصري الأسبق إسماعيل فهمي أن واشنطن كانت قد طلبت من الرئيس أنور السادات بعيد زيارة هذا الأخير للقدس في العام 1977 الحصول على نموذجين من صواريخ سام3 وسام6 الأمر الذي استجاب له هذا الأخير سريعاً، وكان من المؤكد أن واشنطن قدمت كل ما عرفته عن تلك الصواريخ إلى تل أبيب لاستخدامها في عملية قصف تلك الصورايخ، لكن قراراً من هذا النوع لا يزال محل تردد أميركي والمؤكد هو أن خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخير مطلع هذا الشهر سيكون عاملاً يدفع بواشنطن نحو المزيد من التردد، فهو أضاف إلى العوامل الكابحة عاملاً هاماً آخر يتمثل باحتمال أن تتعثر الضربة الأميركية في تحقيق أهدافها فتنتهي إلى فشل لا يحتمله الدور الأميركي راهنا في المنطقة.
ربما من المفيد هنا أن نقول إن من قصدهم الرئيس الروسي في خطابه سابق الذكر بتعبير «حلفاءنا» الذين تعهد بالدفاع عنهم بالسلاح الروسي إنما كانت دمشق في ذروتهم القصوى على الرغم من أن كل التحليلات التي رافقت ذلك الخطاب لم تذهب نحو هذا التفسير، وإذا لم تكن دمشق في الذروة من هؤلاء فمن يكون أولئك الحلفاء خصوصاً بعد أن تكشف الموقف الروسي من الأزمة الأميركية مع كوريا الديمقراطية، وبعد أن تأكد أن موسكو لا تراهن على دعم بيونغ يانغ ولا هي تعول عليها كحليف، فالتطورات الأخيرة في هذا السياق تؤكد أن هذي الأخيرة قد فقدت ثقتها بإمكان أن تتلقى الدعم الروسي، وكذا الصيني، إلى نهاية المطاف، ثم أن الموقف الروسي من فنزويلا هو الأخر لا يبدو انه ماض إلا في سياق الموقف من كوريا، ولذا من المؤكد أن بوتين قصد بحلفائه السوريين والأوكرانيين المؤيدين لموسكو، وفي الآن ذاته كان يمارس الإغراء لآخرين مثل الأتراك والإيرانيين للانضواء تحت «فروة» الدب الروسي.
في سياقات الأحداث الأخيرة والمآلات المحتملة لها، يتبدى بوضوح أن المشروع الأميركي في سورية يمر بمرحلة تعثر قصوى، لكن دون أن يعني ذلك أن المشروع الروسي يمر بمرحلة «راحة» قصوى، ومن المؤكد أن كلا من تل أبيب والغرب سيضاعفان من جهودهما لاحقاً من أجل إخراج روسيا عسكرياً من سورية دون أن يؤدي ذلك إلى مواجهة مباشره معها.
يتبقى أمام الروس خيار وحيد هو الوصول إلى تفاهم مع الأميركيين في سورية على الرغم من أن هكذا احتمال يبدو ضعيفاً إن لم يكن معدوما في ظل المطالب الأميركية التي أعلن عنها للوصول إلى توافق مع الروس يمكن أن يفضي إلى تسوية سياسية في سورية، وهي تبدو في غالبيتها شبه مستحيلة، وفي ذروتها طلب خروج إيران من سورية الغير واقعي، فطهران كانت لها أيد طويلة في الحفاظ على الدولة السورية بكل مؤسساتها، وهي لأجل ذلك قدمت تضحيات بشرية ومادية، والأمر ببساطة لا يمكن لطهران ترك كل شيء وراءها لان واشنطن تريد ذلك، بل وبوضوح أكثر يمثل هذا الشرط الأميركي وصفة ناجعة لدخول الدور الإيراني مرحلة الذبول الدائم إن لم تكن مرحلة الموت بالتدريج.
من الناحية الجيوبوليتيكية فإن تراجع طهران وراء حدودها سيعني تحولها إلى هضبة شاسعة ومترامية الأطراف لكن بدون أدوات أو أذرع قادرة على حمل المؤثرات الإيرانية التي من شأنها الدفع بإيران لكي تكون دولة إقليمية بارزة، وذاك أمر لا تحتمله السياسات الإيرانية الراهنة تحت أي ظرف كان، ثم إن دمشق نفسها لا يمكن لها بقبول خروج إيراني محتمل من سورية انطلاقاً من حسابات المواجهة مع إسرائيل، وهي، أي دمشق، لم تقبل بهكذا طرح زمن السلم والاستقرار عندما دفع «الخارج» بالدوحة لتقديم إغراءات من كل شكل ولون في مقابل فك دمشق لتحالفها مع طهران وذاك كان يمثل سر التقارب السوري القطري ما بين عامي 2007-2008، فكيف يمكن لها أن تقبل به في الوقت الذي تتعرض فيه البلاد لأخطر هجمة عرفتها منذ أن خرج الكيان السوري إلى الحياة في العام 1918.
الوطن