تخبط في حسابات تركيا في إدلب
عبدالله سليمان علي
نفت “هيئة تحرير الشام” علاقتها بجماعتين جهاديتين تستهدفان الروس والأتراك في إدلب. هذا النفي قد يكون من باب تبرئة الهيئة لنفسها من أي شبهة بوجود صلة لها بهاتين الجماعتين لغرض خلط الأوراق وتعقيد الأوضاع في وجه التفاهمات الروسية – التركية على نحو يتيح لها تحقيق مكتسبات إضافية.
واستهدفت مجموعة أطلقت على نفسها اسم “كتائب خطاب الشيشاني” الدوريات الروسية – التركية المشتركة، فيما اقتصر استهداف مجموعة “سرية أبي بكر الصديق” على الجنود والقواعد التركية فقط لحد الآن. ولم تكن هاتان المجموعتان معروفتين قبل توقيع اتفاق الخامس من آذار (مارس) بين أنقرة وموسكو.
لكن نفض الهيئة يديها علناً من هاتين الجماعتين من شأنه طرح تساؤلات كثيرة حول نشأة وخلفية عمل هاتين الجماعتين، وهل سيقتصر الأمر عليهما أم ثمة جماعات جديدة يمكن أن تتوالد في خضم تضارب الأجندات بين “الجهاديين الراديكاليين” والمسار الروسي – التركي المشترك الساعي لإيجاد حل لمعضلة إدلب؟.
وقال تقي الدين عمر مسؤول التواصل الإعلامي في “هيئة تحرير الشام” في تصريح لموقع محلي سوري، الجمعة، إن “تحرير الشام” لا تعرف “كتائب خطاب الشيشاني” ولا تربطها أي صلة بـ”الكتائب”. وأكد تقي الدين أن “تحرير الشام” لم تسمع بـ”الكتائب” إلا من الإعلام، مضيفًا “نشكك في مثل هذه الجهات التي ظهرت فجأة وفي ظروف غامضة. كما أن “عدم وجودها على جبهات القتال لمقاومة الاحتلال الروسي وميليشياته، يشكك بدافع هذا المسمى ومبتغاه”، حسب تقي الدين.
وقد أثار نشاط هاتين الجماعتين القلق في أروقة أجهزة الأمن التركية لعدة اسباب أهمها: السرية والتكتم اللذان يتسم بهما نشاط هاتين الجماعتين مما جعل من ملاحقتهما والانتقام من عملياتهما مهمة شبه مستحيلة. والتكامل الذي بدا جلياً في نشاطهما، بحيث تتولى كل مجموعة القيام بعمليات ضد أهداف محددة، فـ “الكتائب” تستهدف الدوريات المشتركة على طريق أم فور، فيما تستهدف “سرية الصديق” الجنود والمواقع التركية، ما من شأنه أن يشتت جهود التوصل إلى طرف خيط لمعرفة آليات تحركها.
وأخيراً لأن توالد مثل هذه المجموعات في منطقة تتولى تركيا فيها مهمة ضمان الأمن لتسيير دوريات مشتركة مع الجانب الروسي بات يشكل إحراجاً للسياسة التركية ودليلاً على عجزها عن الالتزام ببنود اتفاقاتها مع الروس. وليس هذا فحسب، بل أن من حق تركيا أن تستشعر أنها المستهدفة رقم واحد من وراء توالد هذه الجماعات لأن كل ما يحيط بنشأتها ونشاطها يشي بأن عدم الرضا عن الأداء التركي في ملف إدلب هو سبب كل ذلك.
ومن خلال متابعة الأداء التركي في ملف إدلب بما يتضمنه من اقتتال داخلي بين فصائل مسلحة مدعومة جميعها من قبل أنقرة، وسعي كل فصيل إلى أن تكون له الكلمة العليا على غيره من الفصائل الأخرى، يمكن تسجيل ملاحظة اساسية مفادها أن تركيا لم تضع يوماً ثقلها السياسي والعسكري من أجل تغليب فصيل على فصيل آخر، حتى لو كان الفصيل الذي كتبت له الغلبة مصنفاً على قوائم الارهاب العالمية مثل “هيئة تحرير الشام”.
بل على العكس، كانت تركيا – رغم الخسائر الجانبية التي يمكن ان تصيبها- مرتاحة لمسار الفرز الفصائلي لأنه في النهاية سيؤدي إلى نوع من المركزية بحيث تكون قيادة الجبهات بيد فصيل واحد يمكن معرفته والتفاوض معه وحتى الضغط عليه من أجل السير في المسار الذي تختاره هي.
وفي المقابل، لم تكن “هيئة تحرير الشام” غائبة عن البعد الخفي للسياسة التركية، لذلك وجدت أمامها فسحة من الوقت لتصفية الفصائل الواحد تلو الآخر، ثم سارعت مؤخراً إلى إجهاض “غرفة عمليات فاثبتوا” لما استشعرت أن تشكيل هذه الغرفة من جماعات محسوبة على تنظيم القاعدة قد يهدد “المركزية” التي حققتها وجعلتها الجهة الوحيدة التي يمكن أن تتحدث معها أنقرة أو تعتمد عليها لتمرير سياسات معينة.
من هذه النقطة يمكن فهم خطورة توالد الجماعات “الجهادية” على هامش سيطرة أنقرة وهيئة تحرير الشام على كامل المشهد الإدلبي، لأنه سيشكل النقيض الطبيعي لسياسة المركزية التي ينتهجها الطرفان في تناغم مشبوه. وبالتالي يمكن لهذا التوالد أن يربك حسابات أنقرة في تنفيذ تفاهماتها مع الروس وصولاً إلى تحقيق حلم المنطقة الآمنة في إدلب، كما أنه يوجه صفعة إلى “هيئة تحرير الشام” لعدم قدرتها على إمساك جميع الخيوط بيديها.
وقد وجدت بعض القيادات “الجهادية” أن سياسة المركزية أدت إلى نتائج سلبية لا يمكن التغاضي عنها أهمها: انحسار المناطق التي كانت تسيطر عليها الجماعات المقاتلة عندما كانت تنتهج استراتيجية حرب العصابات وليس استراتيجية الجيوش التي لعبت دوراً كبيراً في “ترويض” هذه الجماعات عبر التلاعب بقنوات الدعم والتمويل. والنتيجة الثانية هي ديناميكية في الانحراف المتسارع بهدف حرف بوصلة الجماعات عبر المركزية، وكانت الأداة المميزة التي جرى استخدامها من قبل المنظومة الدولية لتحقيق ذلك هي “الترميز” بمعنى خلق شخصية رمز تأتمر الجماعة المركزية بأمره، والمقصود هنا بطبيعة الحال أبي محمد الجولاني زعيم “هيئة تحرير الشام”.
والنتيجة الثالثة التي اشارت إليها هذه القيادات هي تعميم نظام الجيوش على الجماعة المركزية، وقد بدأ الأمر مع تشكيل جيش الفتح عام 2015، إذ رغم الانجازات الظاهرة لهذا الجيش إلا أن ما استتبعه يُعد أخطر ما واجه “الجماعات الجهادية” في إدلب. وتفسير ذلك أن تطبيق نظام الجيوش أدى إلى تغييرات جذرية في آلية عمل الجماعات، وجعلها محكومة بقيادة موحدة ومعسكرات تدريب تنتهج نهجاً بعيداً عن حرب العصابات في أدائها، وبالتالي انتهى الأمر إلى تكبيل القدرات القتالية لهذه الجماعات من خلال حصرها ضمن نظام قسري قتل روح المبادرة الفردية.
هذه النتائج دفعت بعض القيادات “الجهادية” التي وعت الواقع جيداً، بحسب مصدر مستقل مقرب من “كتائب خطاب الشيشاني” تحدث لـ “النهار العربي” إلى اتخاذ بعض الخطوات الطارئة للمحافظة على ما تبقى من مكتسبات “الجهاديين” طوال السنوات السابقة.
وأهم هذه الخطوات هو الانفضاض عن الجماعات المنحرفة التي رضيت بأن تتقولب ضمن سياسة “المركزية”، وهو يقصد “هيئة تحرير الشام” وإن لم يسمها، ثم العمل على تصحيح المسار من خلال إعادة ترسيخ مفهوم “لا مركزية الجهاد” لأنه-بحسب المصدر السابق- الحل الأمثل لإخراج الساحة مما اسماه “حالة الموت السريري”.
ويأتي ذلك من خلال العمل على تشكيل جماعات جديدة لا تخضع لمركزية واحدة، تنطلق من طرق متعددة مبتغاها المشترك إحياء الساحة بعيداً عن إملاءات المنظومة الدولية. ولم يستبعد المصدر الذي وصف نفسه بأنه من “المحرضين” على هذا النهج، أن تشهد إدلب ولادة جماعات جديدة غير “كتائب خطاب الشيشاني” و “سرية الصديق” وأن يكون هدف هذه الجماعات موحداً في تقويض نظام المركزية الذي سعت إليه أنقرة ممثلة للمنظومة الدولية حسب قوله. وقال المصدر لـ “النهار العربي” أن “قيادة هيئة تحرير الشام” نتيجة دوره في التحريض وتعزيز هذا النهج تبحث عنه ووضعت مكافأة لمن يدلي بمعلومات تؤدي لاعتقاله.
فهل سيكون بمقدور أنقرة أن تتجاوز التحدي الذي تفرضه “لامركزية الجهاد” التي بدأت بالانفلاش في وجه سياستها في إدلب، مهددةً بإغراقها في مستنقع الاستنزاف طويل الأمد، أم أن السحر سينقلب على الساحر لتحصد تركيا ما زرعته في المنطقة من خلال دعم الجماعات الجهادية معتقدة أنها قادرة على ترويضها وفق سياساتها ومصالحها؟
النهار العربي