الجمعة , مارس 29 2024

أعصاب فولاذية في زمن الأعاصير

أعصاب فولاذية في زمن الأعاصير
| عبد المنعم علي عيسى
تشابكت خيوط الصراع على الأراضي السورية، وفي السياق تبدت أهمية الغوطة الشرقية للغرب وإسرائيل بشكل فاقع حتى إنها فاقت بكثير أهمية الأحياء الشرقية في حلب أواخر عام 2016، حيث كشفت الأيام الأخيرة حالة «تشاد» قصوى ظهرت عبر تمسك روسي بخروج جميع الفصائل المسلحة من الغوطة وهو يسجل حالة اقتراب روسية مهمة من وجهة النظر السورية، ليقابله في الضفة الأخرى تزايد الحديث عن احتمال توجيه ضربة أميركية للجيش السوري تصل إلى دمشق نفسها، فقد أعلن الأميركيون أنهم سوف يقدمون مشروع قرار في مجلس الأمن وإذا ما أسقطه الفيتو الروسي فإنهم سوف يتصرفون خارج مجلس الأمن، وإذا ما أدركنا أن واشنطن موقنة تماماً بأن موسكو سوف تسقط القرار عندها يتأكد أن واشنطن تريد الحصول على الذريعة لشن عدوان أميركي على سورية لا يعدو أن يكون دافعه الأول هو إعادة تغيير قواعد اللعبة في الداخل السوري.
التهديد الأميركي خطر وأخطر ما فيه هو أن الرئيس دونالد ترامب قد وضع الثقل والهيبة الأميركيتين في الميزان الذي لا بد له وأن يعطي تحديداً رقميا لهما، وعلى الرغم من أن جملة من المعطيات العديدة تشي اليوم بـأن عملا عسكرياً أميركياً ضد دمشق سوف يكون إيذاناً بأفول شمس القوة الأميركية كقوة تتربع على عرش العالم تماما كما كانت حرب السويس 1956 إيذاناً بأفول القوتين البريطانية والفرنسية أو تراجعهما إلى الصف الثاني في المسرح العالمي، على الرغم من ذلك فإن واشنطن قد تجد نفسها مضطرة لتنفيذ تهديداتها فـ«التجزئة» هنا باتت مقفلة لأن الرئيس الروسي أعلن بأن مجرد انطلاق الصواريخ الأميركية باتجاه دمشق سيعني استهداف القواعد التي خرجت منها، بل واستهداف القواعد التي تخرج منها طائرات لتنفيذ ضربات في سورية، ما يعني أن تنفيذ ضربة من شأنها حفظ ماء الوجه مثل استهداف مطار الشعيرات السوري في نيسان 2017 هو أمر غير متاح أيضاً.
ما يخشاه الأميركيون وإسرائيل، هو أن حسم معركة الغوطة سوف يؤدي إلى تزايد الضغوط على الفصائل المسلحة العاملة في الجنوب السوري، وربما أرادت دمشق عبر البدء باستهداف تلك الفصائل قبل أن تضع معركة الغوطة أوزارها أن تقول إن ما تخشونه هو صحيح بل حاصل لا محالة، وهو الأمر الذي يفسر تداعي واشنطن إلى عقد اجتماع للدول الداعمة لغرفة عمليات «الموك» الـ11 في عمان بعد أن جرى إيقاف دعم هذي الأخيرة منذ تموز الماضي وفق تقارير ميدانية وليست رسمية، وهو الاجتماع الذي حصل في 12 الجاري مع التأكيد على اجتماعات أخرى لاحقة تحددها تطورات الأحداث.
وفق هذه المعطيات فإن ما من رادع حقيقي لاندلاع الحرب إلا في ميزان القوى القائم بين موسكو وواشنطن، وفي هذا السياق تقول تقارير اختصاصية وعلى درجة عالية من الاطلاع إن ميزان القوى الآن يكاد يكون متعادلاً مع أفضلية روسية في منظومة الصواريخ البرية والجوية، وما يصدر في وسائل الإعلام الأميركية يؤكد أن الأقمار الصناعية الأميركية قد التقطت في الأيام الماضية صوراً لنشر 50 صاروخ أرض أرض من نوع سامارت الذي تحدث عنه بوتين في خطاب الأول من الشهر الجاري والذي قال إنه يفوق سرعة الصوت بـ6 مرات في المنطقة الممتدة من القرم حتى موسكو، فيما تقول تقديرات البنتاغون إن موسكو ستقوم، إذا ما نشبت الحرب، باستهداف مراكز القوة الأميركية في المنطقة بـ500 صاروخ سوف يتم إطلاقها في خلال 40 دقيقة لشل قدرات الجيش الأميركي على الحركة، ومن المؤكد أن واشنطن لديها قدرات خارقة أيضاً وهي لن تتوانى عن استخدامها، لكن وفي ظل هذا الميزان القائم يمكن القول إن نتيجة الحرب، فيما إذا نشبت، ستكون محكومة بعاملين اثنين ربما هما في صالح الروس أولهما هو الإرادة وهدوء الأعصاب، وثانيهما أن النظام العسكري الأميركي الراهن قد يكون عائقاً كبيراً أمام تحقيق ربح عسكري يقطفه ترامب فهذا يحتاج إلى عمليات عسكرية موسعة قد لا يكون متاحاً لهذا الأخير المضي قدماً نحوها في ظل تزايد ثقل جنرالات البنتاغون في حالات أو قرارات كهذه، على حين إن النظام العسكري الروسي يتيح للرئيس الروسي إحكام قبضته على صناعة القرارين السياسي والعسكري والزج بما يراه مناسباً من قوات الجيش الروسي لتحقيق أهداف الحرب المعلنة.
من الناحية الواقعية والعقلانية يجب أن تكون احتمالات الحرب قد تراجعت، فإذا ما كان الهدف الأكبر لها هو منع الجيش السوري من بسط سيطرته على كامل الغوطة، فإن الفرصة لقيامها كانت في ذروتها ما بين 10-13 من الشهر الجاري عندما كانت معركة الغوطة تشهد تحولات نوعية تنبئ بالمآلات التي ستصل إليها تلك المعركة والتي تكشف اليوم جزء كبير منها، إلا أن هذي التقديرات قد لا تنطبق في حالة الرئيس ترامب وربما كان هذا الأخير لا يصدق ميزات الصاروخ «سامارت» وهو يريد التأكد منها عملياً مهما تكن التكاليف!
عامل آخر مهم قد يؤدي إلى استفاقة ترامب من أحلام اليقظة التي يعيشها والتي لم تعد مبررة في ظل تدافع الأحداث الراهن، والتي يجب أن تدفعه هو أيضاً نحو التأقلم مع واقع جديد فرضته معطيات جديدة، فبلاده اليوم لم تعد قادرة على أن تمارس دور القوة المهيمنة على العالم لكنه لا يريد أن يقتنع بذلك، العامل الجديد هو أن القوة العسكرية الإستراتيجية التي وضعت لحماية المصالح الغربية في المنطقة والقيام بمهمة الإسناد لأية خطوة كبرى يمكن أن يقوم بها الغرب، تلك القوة الممثلة بإسرائيل ستكون للمرة الأولى في حرب من هذا النوع عبئاً على القوة الأميركية والغربية لا قوة حقيقية لهما.
يمكن أن يقرأ التشدد الروسي الراهن الذي أذهل العالم على أن التجربة الروسية على امتداد المرحلة من 1991 واليوم جربت أن تستعيد حقوقها التي أضاعتها في المرحلة اليلتسينية والتي حققتها بتضحيات الملايين من أبنائها وقدراتها في خلال الحرب العالمية الثانية، كانت المحاولات تنطلق من طرق أبواب التجارة وأسواق النفط والمال، إلا أنها وجدت أن كل الأبواب موصدة والقوة الوحيدة القادرة على فتحها هي القوة العسكرية التي لن تعجز عن القيام بتلك المهمة مهما تكن تحصيناتها قوية، أما «التراخي» الروسي في ما يخص الأزمة الكورية الأميركية فهو على الأرجح ناجم عن مراجعات حدثت مؤخراً على الإستراتيجيات المتبعة وفيها جرى اتخاذ قرار بتخفيف الأحمال التي ينوء بها الظهر الروسي في استعادة للموقف السوفييتي السابق في العام 1961 فيما عرف بأزمة خليج الخنازير، لكن في مقابل ذلك جرى التمكين لنقاط الارتكاز الأخرى الأساسية في بناء الدور الروسي العالمي الجديد، ومن الواضح أن دمشق باتت تمثل جوهرة العقد الروسي بل لؤلؤته التي إن فقدها فقد كامل بريقه أيضاً.
كان لافتاً الطريقة التي تعاطت عبرها النخب البريطانية مع التحدي الروسي الراهن، ومهما قيل إن الولايات المتحدة هي رأس حربة الحضارة الأميركية، فان بريطانيا تظل الوعاء الأكبر الذي تنهل منه تلك الحضارة، والملاذ الذي تتجه إليه هذي الأخيرة في حال شعرت أنها ماضية نحو تيه لا تدرك إلى أين سيوصل، فقد قالت «الغارديان» يوم الأحد الماضي إن الغرب بحاجة إلى ناتو موسع بل ربما إلى منظمة جديدة لمواجهة روسيا، والقرار الذي اتخذته لندن بتخفيض نفقات التسلح بعد انتهاء الحرب الباردة 1989 ثبت انه أوهام بأوهام.
انتهى كلام «الغارديان»، والمؤكد هو أنها محقة أو صحيحة بدرجة كبيرة، إلا أنها بالتأكيد من نوع الحق الذي يراد به باطل، فالمؤكد هو أن بريطانيا اليوم تريد أن ترى شمس الأميركيين وهي تهوي نحو الغروب عبر مواجهتها مع الروس، ليس انتقاماً لما قامت به الولايات المتحدة معها في حرب العام 1956 التي أذنت بغروب شمس الإمبراطورية البريطانية فحسب، بل لأن ذلك من طبائع القوة، أي قوة، التي إن فشلت في جولة فإنها تحاول من جديد في جولات لاحقة.
الوطن

شام تايمز
شام تايمز
شام تايمز

اترك تعليقاً